الحج
الفصل الأول
في فرضيّة الحج وَشروطها
المبحث الأول : في فرضية الحج وحكمة مشروعيته.
المبحث الثاني : في شروط فرضية الحج.
المبحث الأول
في فرضية الحج وحكمة مشروعيته
1- تعريف الحج :
الحَجُّ في اللغة : القصد إلى مُعَظَّم.
وفي الشريعة : قصد البيت العتيق لأداء الأفعال المفروضة من الطواف بالكعبة والوقوف بعرفة محرماً بنية الحج.
2- فرضية الحج وأدلتها:
الحج فريضة محكمة، محتمة، ثبتت فرضيته بالقرآن والسنة والإجماع.
دليل الكتاب : فقد قال تعالى في سورة آل عمران : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُ البَيْتِ مَنِ اَسْتَطَاعَ ِإلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
فهذه الآية نص في إثبات الفرضية، حيث عبر القرآن بصيغة {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} وهي صيغة إِلزام وإيجاب، وذلك دليل الفرضية.
دليل السنة : فمنها حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج" متفق عليه.
وعن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ..." رواه مسلم والنسائي.
دليل الإجماع : فقد تمَّ الإجماع منذ الصحابة إلى يومنا هذا، وأجمعوا على أن الحج فريضة محكمة على كل مستطيع في العمر مرة واحدة.
حكم العلماء على منكر هذه الفريضة وعلى من اعتقد حجاً آخر بدل الحج إلى الكعبة المشرفة والمناسك أنه مرتد عن الإسلام، كافر بالله ورسوله، والعياذ بالله تعالى.
3- التعجيل بالحج :
لكن اختلفوا في وجوب الحج هل هو على الفور أو على التراخي :
ذهب الإمام أبو حنيفة في رواية عنه ومالك وأحمد إلى أنه يجب على الفور، فمن تحقق فرض الحج عليه في عام فأخره يكون آثماً. واستدلوا بأدلة منها :
1) الحديث "من ملك زاداً وراحلته تبلغه إلى بيت الله الحرام ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً" اخرجه الترمذي.
وذهب بعض الحنفية والشافعي إلى أنه يجب على التراخي فلا يأثم المستطيع بتأخيره، لكن التأخير إنما يجوز بشرط العزم على الحج في المستقبل، فلو خشي العجز أو خشي هلاك ماله حرم التأخير، أما التعجيل بالحج لمن وجب عليه فهو سنة عند الشافعي، ما لم يمت، فإذا مات تبين أنه كان عاصياً من آخر سنوات الاستطاعة، ودليلهما :
1) أن الأمر بالحج في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُ البَيْتِ} مطلق عن تعيين الوقت، فيصح أداؤه في أي وقت، فلا يثبت الالزام بالفور لأن هذا تقييد للنص، ولا يجوز تقييده إلا بدليل، ولا دليل على ذلك.
2) أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة عام ثمان من الهجرة، ولم يحج إلا في السنة العاشرة، ولو كان الحج واجباً على الفور لما وقع منه صلى الله عليه وسلم هذا التأخير.
ومهما الأمر فلا شك أن التعجيل بالأداء أفضل وأحوط، فينبغي على المؤمن أن يبادر لأداء الحج وهو في صحته وشبابه ويسره، ولا يؤخره حتى يوشك أن يفوته لتقدم سنة فيؤديه بغاية المشقة ويحرم نفسه المتعة الروحية في الحج بسبب وهنه وشيخوخته، وإن الفكرة الشائعة بين الناس من تحبيذ تأخير الحج، أو التعجب ممن يعجل بأدائه لهي من نسج الشيطان وجنوده المنافقين الذي يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وذلك مما يجب محاربته والتحذير من أخطاره.
4- حكمة مشروعية الحج :
تشتمل فريضة الحج على حكم جليلة كثيرة تمتد في ثنايا حياة المؤمن الروحية، ومصالح المسلمين جميعهم في الدين والدنيا، منها :
آ- أن في الحج إظهار التذلل لله تعالى، وذلك لأن الحاج يرفض أسباب الترف والتزين، ويلبس ثياب الإحرام مظهراً فقره لربه، ويتجرد عن الدنيا وشاغلها التي تصرفه عن الخلوص لمولاه، فيتعرض بذلك لمغفرته ورحماه، ثم يقف في عَرفَة ضارعاً لربه حامداً شاكراً نعماءه وفضله مستغفراً لذنوبه وعَثَرَاتِه، وفي الطواف حول الكعبة البيت الحرام يلوذ بجناب ربه ويلجأ إليه من ذنوبه ومن هوى نفسه ووسواس الشيطان.
ب- أن أداء فريضة الحج يؤدي شكر نعمة المال، وسلامة البدن، وهما أعظم ما يتمتع به الإنسان من نعم الدنيا، ففي الحج شكر هاتين النعمتين العظيمتين، حيث يجهد الإنسان نفسه وينفق ماله في طاعة ربه والتقرب إليه سبحانه، ولا شك أن شكر النعماء واجب تقرره بداهة العقول، وتفرضه شريعة الدين.
جـ- أن الحج يربي النفس على روح الجندية بكل ما تحتاج إليه من صبر وتحمل ونظام، وخلق سام يتعاون به المرء مع الناس، ألا ترى الحاج يتكبد مشقات الأسفار حتى يتجمع الحجاج كلهم في مكة، ثم ينطلقون انطلاقاً واحداً يوم الثامن من ذي الحجة لأداء المناسك، فيتحركون جميعاً ويقيمون جميعاً، وهم في ذلك مسرورون منقادون، لا تلفتهم مشقات الزحام، ولا تزعجهم أعباء تلك التنقلات.
د- يجتمع المسلمون من أقطار الأرض في مركز اتجاه أرواحهم، ومهوى أفئدتهم، فيتعرف بعضهم على بعض، ويألف بعضهم بعضاً، هناك حيث تذوب الفوارق بين الناس، فوارق الغنى والفقر، فوارق الجنس واللون، فوارق اللسان واللغة، تتحد كلمة الإنسان في أعظم مؤتمر بشري، مؤتمر كله خير وبر وتشاور، وتناصح وتعاون على البر وتآزر.
هـ- وفي الحج ذكريات تغرس في النفس روح العبودية الكاملة، والخضوع الذي لا يتناهي لأوامر الله وشريعته، هناك العبرة تنبثق في ثنايا النفس المؤمنة، توجهها نحو بارئها بالطاعة والتبتل، فعند هذا البيت حطّ أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام رَحْلَهُ بزوجه هاجر ووليده إسماعيل.
فضيلة الحج :
قال تعالى : {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ... } [الحج: 27-28].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" أخرجه الستة إلا أبا داود.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو(1) ثم يباهي بهم الملائكة .. " أخرجه مسلم والنسائي.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكيرُ خَبثَ الحديدِ والذهب والفضة، وليس للحَجَّة المبرورة ثواب إلا الجنة". أخرجه الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه.
_________________-
(1) يتجلى
المبحث الثاني
5- في شروط فرضية الحج
الشرط الأول : الإسلام :
فلو حج الكافر ثم أسلم بعد ذلك تجب عليه حجة الإسلام، لأن الحج عبادة، بل هو من أعظم العبادات والقربات، والكافر ليس من أهل العبادة.
الشرط الثاني : العقل :
لأن العقل شرط للتكليف، والمجنون ليس مكلفاً بفروض الدين، بل لا تصح منه إجماعاً لأنه ليس أهلاً للعبادة، فلو حج المجنون فحجه غير صحيح، فإذا شفي من مرضه وأفاق إلى رشده تجب عليه حجة الإسلام.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : "رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل" أخرجه الترمذي وحسنه، وأبو داود، وابن ماجه.
الشرط الثالث : البلوغ :
لأن الصبي ليس بمكلف، فلو حج صح حجه وكان تطوعاً.
الشرط الرابع : الحرية :
فالعبد المملوك لا يجب عليه الحج، لأنه مستغرق في خدمة سيده.
الشرط الخامس : الاستطاعة :
فلا يجب الحج على من لم تتوفر فيه، لأن القرآن خص الخطاب بهذه الصفة في قوله تعالى : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُ البَيْتِ مَنِ اَسْتَطَاعَ ِإلَيْهِ سَبِيلاً}.
والاستطاعة التي تشرط لوجوب الحج قسمان :
القسم الأول : الاستطاعة التي تشترط في الرجال والنساء :
القدرة على الزاد وآلة الركوب، وصحة البدن، وأمن الطريق، وإمكان السير.
آ- القدرة على الزاد وآلة الركوب والنفقة :
ذهب الجمهور الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه يختص اشتراط القدرة على آلة الركوب بمن كان بعيداً عن مكة ذهاباً وإياباً.
والمسافة البعيدة عند الشافعية والحنابلة فهو من كان بينه وبين مكة مرحلتان، وهي مسافة القصر عندهم. وتقدر بـ 88.5 كم.
وعند الحنفية تقدر بـ 81 كم وقيل 83.5 كم.
وذهب المالكية إلى أنه يجب عليه الحج إذا كان صحيح البنية يقدر على المشي، وهو يملك الزاد.
اختلاف العلماء في الزاد ووسائل المواصلة هل يشترط ملكية المكلف لما يحصلها به أو لا يشترط ؟ :
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن ملك ما يحصل به الزاد ووسيلة النقل شرط لتحقق وجوب الحج.
وذهب الشافعي إلى أَنه يجب الحج بإباحة الزاد والراحلة إذا كانت الإباحة ممن لا منَّةَ له على المباح له، كالوالد إذا بذل الزاد والراحلة لابنه.
- شروط الزاد وآلة الركوب وما يتفرع عليها :
وقد ذكر العلماء شروطاً في القدرة على الزاد وآلة الركوب هي تفسير وبيان لهذا الشرط، نذكرها فيما يلي :
أ- أن الزاد الذي تشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة بنفقة وسط لا إسراف فيها ولا تقتير، فلو كان يستطيع زاداً أَدنى من الوسط الذي اعتاده لا يعتبر مستطيعاً للحج، ويتضمن اشتراط الزاد أيضاً ما يحتاج إليه من آلات للطعام والزاد مما لا يستغنى عنه.
ب- صرح الفقهاء : بأنه يشترط في الراحلة أن تكون مما يصلح لمثله إما بشراء أَو بكراء.
ومعلوم أن تقدم الحضارة أَلغى استعمال الدواب في الأسفار وأَحل مكانها الطائرات والبواخر والسيارات، فمن وجد نفقة وسيلة للسفر لا تناسبه لا يكون أيضاً مستطيعاً للحج حتى يتوفر لديه أَجر وسيلة سفر تناسب أمثاله.
جـ- إن ملك الزاد ووسيلة النقل يشترط أن يكون فاضلاً عما تمس إليه الحاجة الأصلية.
والحاجة الأصلية تشمل ثلاثة أمور هي :
1) نفقة عياله ومن تلزمه نفقتهم مدة ذهابه وإيابه، لأن النفقة حق للآدميين، وحق العبد مقدم على حق الشرع، وقد روى عبد الله ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت" أخرجه أبو داود والحاكم.
2) ما يحتاج إليه هو وأهله من مسكن، ومما لابد منه لمثله كالخادم وأثاث البيت وثيابه بقدر الأعتدال المناسب له في ذلك كله.
3) قضاء الدين الذي عليه، لأن الدين من حقوق العباد، وهو من حوائجه الأصلية فهو آكد، وسواء كان الدين لآدمي أو لحق الله تعالى كزكاة في ذمته، أو كفارات ونحوها.
فإذا ملك الزاد والحَمولة زائداً عما تقدم فقد تحقق فيه الشرط، وإلا لم يجب عليه الحج.
وهنا فروع تتعلق بهذه المسألة نذكر منها :
1) ذهب الحنفية إلى أنَّ من كان له مسكن واسع يفضل عن حاجته بحيث لو باع الجزء الفاضل عن حاجته من الدار الواسعة لو في ثمنه للحج لا يجب عليه البيع.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب البيع.
وذهب الحنفية أيضاً إلى أنه لو كان مسكنه نفسياً يفوق على مثله لو أبدل داراً أدنى لوَفَّى تكاليف الحج، لا يجب عليه البيع.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب ذلك.
2) من ملك بضاعة لتجارته هل يلزمه صرف مال تجارته للحج ؟
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه يشترط بقاء رأس مال لحرفته زائداً على نفقة الحج، ورأس المال يختلف باختلاف الناس، والمراد ما يمكنه الاكتساب به قدر كفايته وكفاية عياله لا أكثر، لأنه لا نهاية له.
وذهب الشافعي إلى قولين الأصح أنه يلزمه صرف مال تجارته لنفقة الحج ولو لم يبق له رأسمال لتجارته.
3) من ملك نفقة الحج وأراد أن يتزوج فله حالان :
الحال الأولى : إن يكون في حالة اعتدال بالنسبة للشهوة فهذا يجب عليه تقديم الحج على الزواج إذا كان ملك ذلك في أشهر الحج.
الحال الثانية : أن يكون في حالة توقان نفسه والخوف من الزنا، فهذا يكون الزواج في حقه مقدماً على الحج إتفاقاً.
4) إذا ملك نقوداً لشراء دار يحتاج إليها وجب عليه الحج، وإن جعلها في غيره أثم، إذا حصلت له النقود وقت خروج الناس للحج، أما قبله فيشتري به ما شاء لأنه مَلَكَه قبل الوجوب.
5) ليس من الحوائج الأصلية ما جرت به العادة المُحْدَثَة برسم الهدية للأقارب والأصحاب، فلا يعذر بترك الحج لعجزه.
ب- صحة البدن :
1) إذا وجدت سائر شروط الحج في شخص وهو مريض زَمِن أو مصاب بعاهة دائمة أو مقعد أو شيخٍ كبير لا يثبت على آلة الركوب بنفسه فلا يجب عليه أن يؤدي هو فريضة الحج اتفاقاً، ولكن اختلفوا هل صحة البدن شرط لأصل الوجوب أو هي شرط للأداء بالنفس - أي لوجوب أداء الحج بنفسه -.
ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنها شرط للوجوب، وبناء على ذلك لا يجب على فاقد صحة البدن أن يحج بنفسه ولا بإنابة غيره ولا الإيصاء بالحج عنه في المرض، لقوله تعالى : {مَنِ اَسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً }، وهذا غير مستطيع بنفسه فلا يجب عليه الحج.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن صحة البدن ليست شرطاً للوجوب، بل هي شرط للزوم الأداء بالنفس، فمَن كان هذا حاله يجب الحج عليه.
ويتفرع على ذلك :
1) أَن مَنْ كان قادراً على الحج بمساعدةِ غيره كالأعمى وجب عليه الحج بنفسه إذا تيسر له مَن يعينه تبرعاً، أو بأجرة إن كان قادراً على أجرته إذا كانت أجرة المثل، ولا يكفيه حج الغير عنه إلا بعد أن يموت. ومن لم يستطع الحج بمساعدة غيره وجب عليه أن يرسل غيره ليحج عنه. ويجب على المريض أن يوصي بالحج عنه بعد موته.
2) إذا وجدت شروط الحج مع صحة البدن فتأخر حتى أصيب بعاهة تمنعه من الحج ولا يُرجَى زوالهُا فالحجُّ واجب عليه اتفاقاً، ويجب عليه أَن يرسل شخصاً يحج عنه. أَما إذا أُصيب بعاهة يرجى زوالها فلا تجوز الإنابة، بل يجب عليه الحج بنفسه عند زوالها عنه.
3) ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه من كان غير مُعافى وملك المال وجب أن ينيب من يحج عنه.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب ذلك، وهذا هو الأحوط لبراءة الذمة.
ج- أمن الطريق وعدم الحبس أو المنع من السلطان أو الخوف منه :
وذلك وقت خروج الناس للحج، ومثله تنظيم الدور إن لم يستطع تخطيه لأن الاستطاعة لا تثبت دونه. واختلفت الرواية في أمن الطريق بين الفقهاء :
ذهب أبو حنيفة في رواية والشافعية وأحمد في رواية إلى أنه شرط الوجوب، لأن الاستطاعة لا تتحقق بدون أمن الطريق.
وذهب أبو حنيفة في رواية أخرى وهي الأصح وأحمد في رواية أخرى وهي الراجحة إلى أنه شرط للأداء لا للوجوب وهو الأصح، فعلى هذا المذهب من استوفى شروط الحج عند خوف الطريق فمات قبل أمنه يجب عليه أن يوصي بالحج. أما إذا مات بعد أمن الطريق فتجب الوصية اتفاقاً بين الجميع.
د- إمكان السير :
وهو أن تكمل فيه شرائط الحج والوقت متسع يمكنه الذهاب للحج.
ذهب الحنفية والشافعية إلى أنه شرط لأصل الوجوب.
وذهب الحنبلية إلى أنه شرط للأداء.
القسم الثاني : الشروط الخاصة بالنساء :
أما الشروط الخاصة بالنساء فهي شرطان لابد منهما لكي يجب الحج على المرأة، يضافان إلى شرط الاستطاعة التي ذكرناها، وهذان الشرطان هما : الزوج أو المحرم، وعدم العدة :
أ- الزوج أو المحرم الأمين :
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه يشترط أن يصحب المرأة زوجها أو ذو رحم محرم منها مؤبد التحريم - إذا كانت المسافة بينها وبين مكة ثلاثة أيام، وهي مسيرة القصر في السفر : (83 كيلومتراً أو 88.5).
استدلوا بحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم" أخرجه الشيخان.
وذهب الشافعية إلى أنها إذا وجدت نسوة ثقات اثنتين فأكثر تأمن معهن على نفسها كفى ذلك بدلاً من المحرم أو الزوج بالنسبة لوجوب حجة الإسلام على المرأة، وعندهم: "الأصح أنه لا يشترط وجود محرم لإحداهن لأن الأطماع تنقطع بجماعتهن" فإن وجدت امرأة واحدة ثقة فلا يجب عليها الحج، لكن يجوز لها أن تحج معها حجة الفريضة أو النذر، بل يجوز لها أن تخرج وحدها لأداء الفرض أو النذر إذا أمنت.
وذهب المالكية : إلى أنَّ المرأة إذا لم تجد المحرم أو الزوج ولو بأجرة تسافر لحج الفرض أو النذر مع الرفقة المأمونة، بشرط أن تكون المرأة بنفسها هي مأمونة أيضاً. والرفقة المأمونة جماعة مأمومنة من النساء أو الرجال الصالحين.
أما حج النفل فلا يجوز للمرأة السفر له إلا مع الزوج أو المحرم فقط، باتفاق العلماء، ولا يجوز لها السفر بغيرهما، بل تأثم به.
وههنا مسائل تتعلق بالمحرم :
1) اختلفوا في المحرم هل هو شرط وجوب أو شرطٌ للزوم الأداء بالنفس، والراجح أنه شرط للزوم الأداء بالنفس.
2) يشترط في المحرم أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً صاحب استقامة، لكي يحصل به المقصود وهو حمايتها ورعايتها. وذهب الحنفية والحنبلية إلى أنه لو كان محرمها فاسقاً فإنه لا يكفي لتوفر الشرط في حقها، لأن المقصود لا يحصل به.
وذهب المالكية مثل ما ذهب إليه الحنيفة والحنبلية، لكن لم يشترطوا البلوغ بل التمييز والكفاية. أما عند الشافعي فلا تشترط العدالة في المحرم والزوج، بل يكفي ولو كان فاسقاً إذا كان له غَيْرَة تمنعه أن يرضى بالزنا. وتشترط الثقة في النساء.
3) ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه يشترط أن تكون قادرة على نفقتها ونفقة المحرم، لأنه يستحقها عليها، أما الزوج فعليه هو نفقتها.
وذهب المالكية والشافعية إلى أن له أخذ الأجرة إذا كانت أجرة المثل.
4) ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه إذا وجدت محرماً لم يكن للزوج منعها من الذهاب لحج الفرض، ويجوز أن يمنعها من الحج النفل.
وقال الشافعية : ليس للمرأة الحج إلا بإذن الزوج فرضاً أو غيره، لأن في ذهابها تفويت حق الزوج، وحق العبد مقدم، لأنه فرض بغير وقت إلا في العمر كله، فإن خافت العجز البدني بقول طبيبين عدلين لم يشترط إذن الزوج.
ب- عدم العدة :
ذهب الحنفية إلى أنه يشترط ألا تكون المرأة معتدة عن طلاق رجعي أو سابق أو وفاة مدة إمكان السَّيْرِ للحج، لأن الله تعالى نهى المعتدات عن الخروج من بيوتهن بقوله : {لا تُخرِجُوهُنَّ من بيوتهِنَّ ولا يخرُجْنَ إلا أنْ يأتينَ بفاحشةٍ مُبيِّنةٍ} [الطلاق: 1] والحج يمكن أداؤه في وقت آخر فلا تلزم بأدائه الآن.
وذهب الحنبلية إلى أنه لا تخرج المرأة إلى الحج في عدة الوفاة، ولها أن تخرج إليه في عدة الطلاق المبتوت، وذلك لأن لزوم البيت فيه واجب في عدة الوفاة والطلاق المبتوت لا يجب فيه ذلك وأما عدَّة الرجعية فالمرأة فيه بمنزلتها في طلب النكاح لأنها زوجة.
وذهب الشافعية : إلى أنَّ للزوج أن يمنع المطلقة الرجعية للعدة وذلك لأنه يحق للزوج عندهم منعها عن حجة الفرض.
الفصل الثاني
6- الحَج عن الغَيْر
مشروعية وشروط وجوب الإحجاج :
ذهب الجمهور - الحنفية والشافعية والحنابلة - إلى أنه من وجب عليه الحج فحضره الموت قبل أن يحج عليه أن يوصي بالإحجاج عنه، ومن استوفى شروط وجوب الحج بنفسه فلم يحج عن الأداء بنفسه لكبر سن أو مرض مزمن لا يرجى برؤه، أو ذهاب البصر أو عدم أمن الطريق أو عدم المحرم بالنسبة للمرأة، وكذا من توفرت فيه سائر شروط وجوب الحج في حالة العجز عن الأداء يجب عليهما الاحجاج عن أنفسهما، أو الوصية بالاحجاج إذا لم يرسلا من يحجج عنهما.
والأصل في هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
"جاءت امرأة من خَثْعَم عام حجة الوداع، قالت: يا رسول الله: إن فريضةَ اللهِ على عباده في الحجّ أدْرَكَتْ أبي شيخاً كبيراً لا يستطيعُ أنْ يستويَ على الراحلة فهل يقضي عنه أنْ أحجَّ عنه ؟ قال : "نعم". متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً أن امرأة من جُهَيْنَةَ جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : "إنَّ أمي نذَرَتْ أنْ تحجَّ فلم تحُجَّ حتى ماتت، أفأ حجُّ عنها ؟ ".
قال صلى الله عليه وسلم: "نعم، حُجّي عنها، أرأيتِ لو كانَ على أمِّك دينٌ أكنتِ قاضية؟! أقضوا اللهَ، فاللهُ أحقُّ بالوفاء" أخرجه البخاري والنسائي.
وذهب المالكية إلى الأخذ المالكية بالأصل، وهو عدم جريان النيابة في العبادة البدنية كالصوم.
7-شروط جواز الإحجاج:
أ- شروط الحج الفرض عن الغير:
يشترط لصحة حجة النائب عن الفريضة الواجبة على المحجوج عنه ما يلي:
1) يشترط أن يأمر الأصيل بالحج عنه، فلا يجوز الحج عن الغير الحي بدون إذنه اتفاقاً. ذهب الحنفية والمالكية إلى أنَّ الميت لا بد من وصيته، واستثنى الحنفية الوارث فإنه إذا حج أو أحج عن مورثه بغير إذنه فإنه يجزئه وتبرأ ذمة الميت إن شاء الله تعالى، إذا لم يكن أوصى بالحج عنه.
وذهب الشافعية والحنبلية إلى أنه مَن مات وعليه حج وجب الإحجاجُ عنه من تركته، سواء أوصى به أم لا، كما تُقْضَى منها ديونه سواء أوصى بها أم لا، فلو لم يكن له تَرِكَةٍ اسْتُحِبَّ لوارثه أن يُحِجُّ عنه، فإنْ حَجَّ عنه بنفسه أو أرسل مَنْ حج عنه سقط الحج عن الميت، ولو حج عنه أجنبي جاز، وإنْ لم يأذن له الوارث، كما يقضي دينه بغير إذن الوارث.
2) ذهب الحنفية إلى أنه تكون نفقة الحج من مال الآمر كلها أو أكثرها سوى دم التمتع القرآن فهما على الحاج عندهم، إلا الوارث إذا تبرع بالحج عن مورثه تبرأ ذمة الميت إذا لم يكن قد أوصى بالإحجاج عنه.
وذهب الشافية والحنابلة إلى إجازة أنْ يُتَبرَّعَ بالحج عن الغير مطلقاً كما يجوز أن يتبرع بقضاء دينه، من أي شخص كان، وتبرأ ذمته.
وذهب المالكية إلى أن الأمر تابع للوصية أو لتبرع النائب، لا لإسقاط الفريضة عن الميت.
3) ذهب الحنفية والمالكية إلى أنه يشترط أن يحج عنه من وطنه إن اتسع ثلث التركة، وإن لم يتسع يحج عنه من حيث يبلغ.
وذهب الشافعية والحنبلية إلى أنه يعتبر اتساع جميع مال الميت، لأنه دين واجب، فكان من رأس المال كدين الآدمي، لكن عند الشافعية يجب قضاء الحج عنه من الميقات، وقال الحنابلة يجب أن ينوب عنه من بلده.
4) أن يحج المأمور بنفسه : نص الحنفي والمالكية والشافعية على هذا الشرط.
فلو مرض المأمور أو حُبِسَ فَدَفع المال إلى غيره بغير إذن المحجوج عنه لا يقع الحج عن الميت، والحاج الأول والثاني ضامنان لنفقة الحج، إلا إذا قال الآمر بالحج اصنع ما شئت، فله حينئذ أن يدفع المال إلى غيره، ويقع الحج عن الآمر.
5) أن يحرم من الميقات بالحج أو العمرة عن الشخص الذي يحج عنه ويذكر اسمه حسبما أمر به من غير مخالفة، فلو أمره بالإفراد فقرن عن الآمر فهو مخالف ضامن للنفقات عند أبي حنيفة، أما إذا أمره بالإفراد فتمتع عن الآمر لم يقع حجه عنه ويضمن اتفاقاً عند أئمة الحنفية والشافعية، أما إذا أمره بالإفراد فقرن عن الآمر فيقع ذلك عن الآمر عند الشافعي، ولا يقع عن الآمر والنائبُ مخالف ضامن للنفقات عند أبي حنيفة.
6) أهلية المأمور لصحة الحج بأن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً، فلا يشترط أن يكون المأمور قد حج الإسلام عند الحنفية، بل تصح هذه الحجة البدلية وتبرأ ذمة الميت عندهم مع الكراهة التحريمية.
واستدلوا باطلاق حديث الخَثْعَمِيّة السابق، فإنه صلى الله عليه وسلم قال لها : "حجي عن أبيك" من غير استخبارها عن حجها لنفسها قبل ذلك.
وذهب الشافعية والحنبلية إلى أنه يُشْتَرَط لإجزاء الحج عن الغير أن يكون من يحج عن الغير قد حج حجة الإسلام.
واستدلوا بما أخرج أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : لبيك عن شُبْرمَةَ قال : "من شبرمة ؟" قال : أخ لي أو قريب لي. قال: "حَجَجْتَ عن نفسك ؟" قال : لا. قال : "حُجَّ عن نفسك ثم حج عن شبرمة".
ب- الحج النفل عن الغير:
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن حجَّ النفل لا يشترط فيه شيء منها إلا الإسلام، والعقل، والتمييز، والنية، وذلك لاتساع باب النفل، فإنه يُتَسامحُ في النفل ما لا يتسامح في الفرض. وهذا مذهب الحنفية وأحمد.
وذهب المالكية إلى إجازة ذلك مع الكراهة فيه وفي النيابة في الحج المنذور.
وذهب الشافعية إلى التفصيل في ذلك : وقالوا : لا تجوز الاستنابة في حج النفل عن حيّ ليس بمعضوب، ولا عن ميت لم يوص به. أما الميت الذي أوصى به والحي المعضوب إذا استأخر من يحج عنه ففيه قولان مشهوران للشافعية أصحهما الجواز، وأنه يستحق الأجرة.
الاستئجار على الحج :
ذهب الحنفية وأحمد في الأشهر إلى أنه لا يجوز الاستئجارُ على الحج فرضاً أو نفلاً، فلو عقدت الإجارة للحج عن الغير فهي عند أبي حنيفة باطلة، لكن الحجة عن الأصيل صحيحة، ويُسَمُّونَ الأجير مأموراً ونائباً. وقالوا : له نفقة المِثْل في مال الأصيل، لأنه حبس نفسه لمنفعة الأصيل، فوجبت نفقته في ماله.
وذهب الشافعية إلى جواز الاستئجار على الحج الفرض أو النفل، وبه أخذ المالكية مراعاة لخلاف الشافعية في جواز النيابة في الحج النفل.